الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن فتح سوسة والمهدية: كانت سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلب العرب على العمالات فأقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوغ للعرب من الأمصار والاقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها واستبد بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر بن عمه محمد بن مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوغها له كذلك مفضلا مرهبا من قتله ثم قتله بنو كعب وأقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبد بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة ويسن الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحه مولى السلطان أبي إسحق وقائد عسكره فتقبض عليه واعتقله بسوسة أياما ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه ولم يزل هذا دأبهم وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيئة ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذن الله لأهل أفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر واستبد مولانا السلطان أبو العباس بالحضرة وسائر عمالات أفريقية وهبت ريح العز على المغرب في جميع النواحي فتنكر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا وأحس بتنكراتهم فخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد وثارت عامتها بعماله وأجهضوهم ونزل عمال السلطان.ثم كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوخ جهاتها واستوفى جباية أعمالها وكان بالمهدية محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إياها من أيدي أبي العباس بن مكي والأمير أبي يحيى زكريا المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مر وأقام ابن الجكجاك أميرا عليها بعد موت الحاجب فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمة صهر قديم كان بينهما وبادر مولانا السلطان إلى تسليم المهدية وبعث عليها عماله وانتظمت في ملكيته واطردت أحوال الظهور والنجح وكان بعد ذلك ما نذكر إن شاء الله تعالى..الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان: كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولاه أبو عبد الله محمد بن تافراكين على هذه الجزيرة قد تقبل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحاله مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها وقد ذكرنا سلفه من قبل وأن والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق بكتابة ابنه أبي عبد الله مولاه على جربة عند افتتاحه إياها سنة وأنه قصده عند مفره عن المولى أبي اسحق لينزل جربة معولا على قديم اصطناعه إياه فمنعه ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمو من في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه وأقام ممتنعا سائر دولة مولانا السلطان وابنه من بعده.ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والوحشة وصار إلى مكاثرة رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم فأجرى في ذلك شأوا بعيدا مع تخلفه في مضمار بقديمه وحديثه وصارف السلطان سوء الامتثال وإتيان الطاعة ومنع الحباية فأحفظ ذلك ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين وصاحب بجاية لعهد المستنصر وقد تقدم ذكره وأمده في الأسطول في البحر لحصارها ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل الأسطول إلى مرساتها فأطاف بحصن القشتيل وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزيرة من البربر وانحاش معه بطانته من الجند المستخدمين معه بها ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأن عساكر السلطان قد أحاطت بهم برا وبحرا نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن وبادروا إلى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن وتقبضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول واستولوا على داره وولوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل بالديوان فأركب القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهارا لعقوبة الله النازلة به وأحضره السلطان فوبخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين..الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية: كان السلطان عندما استجمع الرحلة إلى أفريقية باستحثاث أهلها لذلك ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مرغبا فأهمه لذلك شأن الثغور الغربية وأحال اختياره في بنيه بسير أحوالهم ويعيش على الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أولا على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له على بجاية وأعمالها وأنزله بقصور الملك منها وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند واستعمل على قسنطينة وضواحيها مولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه وناشىء قصده وتلاد مرباه وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس ودالة بالقديم والحادث وخلال لقيها أيام التغلب في أواوين الملك وكان ملازما ركاب مولاه في مطارح اغترابه وأيام تمحيصه وربما لقي عند الورود على قسنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل السرور وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال فظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية وكان السلطان يثق بنظره في العسكر ويبعثه في مقدمة الحروب وكان عند استيلائه على بجاية وصرف العناية إليها ولاه أمر قسنطينة وأنزله بها وأنزل معه ابنه الأمير أبا اسحق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعساكر عند النهوض إلى أفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح ثم رجعه إلى عمله بقسنطينة بمزيد التفويض والاستقلال فلم يزل قائما بما دفع إليه من ذلك إلى أن هلك.وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحق على ملك بن مقرب والسلطان عبد العزيز عندما استولى على تلمسان مهنئا بالظفر ملفحا غراس الود وأنفذ معه شيخ الموحدين ساسة أبا إسحق بن أبي هلال وقد مر من قبل ذكر أخيه فتلقاهما ملك بن مقرب بوجوه المبرة والاحتفاء ورجعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ونزل الأمير أبو اسحق بقسنطينة دار إمارته وعقد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه والقائد بشير مولى أبيه مستبد عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير ثمان وسبعين وسبعمائة عندما استكمل الأمير أبو إسحق الحال واستجمع الإمارة فجدد له السلطان عهده عليها وفوض إليه في إمارتها فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام وأحواله تصدق الظنون وتومي إليه وشهادة المخايل التي دلت عليه فاستقل هذان الأميران بعهد بجاية وقسنطينة وأعمالها مفوضا إليهما الإمارة مأذونا لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة وكان الأمير أبو يحيى زكريا الأخ الكريم مستقلا أيضا ببونة وعملها منذ استيلائه عليها سنة قد أضافها السلطان وأصارها في سهمانه فلما ارتحلوا إلى أفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه لكونه معه عقد عليها لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها فوض إليه في إمارته لما استجمع من خلال التشريع والذكر الصالح في الدين واستمر الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مدبر الأمور سبحانه.
|